
هل نتوقف يومًا عن الحاجة إلى الراحة والطمأنينة؟
يشارك
منذ لحظة ولادتنا، ترتبط الراحة ببقائنا على قيد الحياة. بكاء الطفل يُجاب باللمس والدفء والكلمات المهدئة. لكن ماذا عن مرحلة البلوغ؟ هل يُفترض بنا أن “نتجاوز” هذه الحاجة، ونقف مستقلين دون انتظار تطمين أو مواساة؟ أم أننا نحمل بداخلنا طفلًا داخليًا لا يتوقف عن البحث عن الطمأنينة كلما أثقلتنا ضغوط الحياة؟
هذا السؤال ليس فلسفيًا فقط، بل هو نفسيّ أيضًا. ففي جلسات العلاج كثيرًا ما يظهر بطرق خفية: أشخاص يعتذرون لأنهم بحاجة إلى دعم، آخرون يقللون من شأن مشاعرهم ويعتبرونها ضعفًا، أو من يشعرون بالذنب حين يطلبون من غيرهم بعض الطمأنينة. لننظر إذن إلى طرفي النقاش.
الحجة الأولى: على البالغ أن يتعلم الاستقلالية
يرى كثير من علماء النفس والتقاليد الثقافية أن الاستقلالية علامة نضج. أن تصبح بالغًا يعني أن تتعلم ضبط مشاعرك، وإدارة الضغوط، وتحمل مسؤولية ذاتك دون اعتماد مفرط على الآخرين.
لكن الاعتماد المبالغ فيه على الطمأنة قد يتحول إلى تجنّب:
- طلب التطمين المتكرر: السؤال الدائم “هل كل شيء بخير؟” قد يغذي القلق بدل أن يطفئه، لأن الدماغ لا يتعلم تحمّل الغموض.
- حلقة التعلق: الاعتماد الدائم على الآخرين يمنع نمو المرونة النفسية والقدرة على التكيف.
- تنظيم الذات العاطفي: مهمة أساسية في مرحلة البلوغ هي تهدئة النفس داخليًا عبر التنفس العميق، وتقنيات الاسترخاء، وإعادة صياغة الأفكار.
في العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، ينسجم هذا المنظور مع هدف تمكين المراجع من بناء “صندوق أدوات” داخلي بدل انتظار إنقاذ خارجي. الهدف هو كسر دوائر الاعتمادية وتعزيز الثقة في مواجهة التحديات.
الحجة الثانية: الطفل الداخلي لا يتوقف عن الحاجة للطمأنينة
مع ذلك، تذكّرنا النفس البشرية أننا مخلوقات اجتماعية طوال العمر. نظرية التعلّق تؤكد أن الحاجة إلى القرب والراحة لا تنتهي بانتهاء الطفولة، بل تتطور. فالكبار مثل الصغار يبحثون عن علاقات آمنة تمنحهم الشعور بأنهم مرئيون ومسموعون ومطمأنون.
هناك دلائل عديدة تدعم هذا المنظور:
- التعلق يستمر مدى الحياة: أبحاث بولبي ومن جاء بعده أثبتت أن العلاقات الآمنة في الرشد ( مع شريك، صديق، أو معالج ) تمنح أساسًا للمرونة النفسية.
- علم أعصاب الطمأنينة: هرمون الأوكسيتوسين، “هرمون الترابط”، يُفرز ليس فقط في الطفولة بل طوال الحياة كلما عشنا دفء الثقة واللمس. أدمغتنا مهيأة بيولوجيًا للتبادلات المهدئة.
- الصدمة والمحفزات: حين يواجه الفرد صدمة، قد يظهر الطفل الداخلي من جديد تحت الضغط. البحث عن الطمأنينة في هذه اللحظات ليس رجوعًا إلى الوراء بل خطوة نحو الشفاء.
- التهدئة الذاتية كإعادة تربية: كثيرًا ما يتعلم الإنسان في العلاج أن يصبح الوالد الذي كان يحتاجه في طفولته، فيمنح نفسه تعاطفًا وحنانًا وتطمينًا في لحظات الخوف.
من هذا المنظور، الحاجة إلى الطمأنينة ليست نقصًا في النضج، بل جزء جوهري من إنسانيتنا. إنكارها بالكامل قد يغذي الشعور بالخزي والانفصال العاطفي.
الحل الوسط: موازنة الطمأنينة مع الاستقلالية
بدل أن نسأل: هل يجب أن نتوقف عن طلب الطمأنينة؟ ربما السؤال الأجدر هو: كيف نوازن بين حاجتنا إلى الطمأنينة وحاجتنا إلى الاستقلال؟
- الطمأنينة الصحية: القدرة على تلقي الدعم دون الاعتماد الكامل عليه.
- الاستقلالية الصحية: القدرة على الوقوف وحدك دون إنكار الحاجة الإنسانية إلى القرب.
غالبًا ما يعمل CBT في هذه المساحة الوسطى:
- مريض يشعر بالخجل من دموعه قد يتعلم أن البكاء وسيلة للتفريغ لا علامة ضعف.
- آخر يطلب الطمأنة دائمًا من شريكه قد يتدرب على تحمّل الغموض، مع الحفاظ على مساحة من الدفء والحميمية.
- من يستثار بمحفز صادم قد يتعلم تقنيات التهدئة الذاتية (التنفس، التأريض، العبارات الداعمة) وفي الوقت نفسه يلجأ إلى شخص آمن عند الحاجة.
هكذا يتعايش البالغ والطفل الداخلي معًا: أحدهما يمنح البناء، والآخر يذكرنا بإنسانيتنا الهشّة.
خاتمة
إذن، هل نتوقف يومًا عن الحاجة إلى الطمأنينة؟ ربما تكمن الحقيقة بين النقيضين. نحن بحاجة إلى تنمية الاستقلالية والمرونة، لكننا لا نتجاوز أبدًا الشوق الإنساني العميق لأن نجد من يهدئنا. حياة الاكتفاء الذاتي قد تبدو قوية من الخارج لكنها وحيدة من الداخل. وحياة الاعتماد الكلي قد تبدو آمنة لكنها هشة عند غياب الآخرين.
ربما النضج ليس في غياب الحاجة إلى الطمأنينة، بل في القدرة على أن نواسي أنفسنا ونسمح للآخرين أن يواسونا أيضًا. فالجمع بين الاستقلالية والارتباط اعتراف بأن الإنسانية تعني أن نحمل بداخلنا ذلك الطفل دومًا، لا كضعف، بل كبرهان أن التعاطف والرعاية حاجات لا يحدها زمن.